فصل: فصل في بيان أحكام الآية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فإن تحاكموا إلينا فالحاكم مخيّر، إن شاء حكم بينهم بما أنزل الله وإن شاء أعرض.
وقيل: يحكم بينهم في المظالم على كل حال، ويؤخذ من قويّهم لضعيفهم؛ لأنه من باب الدفع عنهم.
وعلى الإمام أن يقاتل عنهم عدّوهم ويستعين بهم في قتالهم.
ولا حظّ لهم في الفَيْء، وما صُولحوا عليه من الكنائس لم يزيدوا عليها، ولم يمنعوا من إصلاح ما وَهَى منها، ولا سبيل لهم إلى إحداث غيرها.
ويأخذون من اللباس والهيئة بما يبِينون به من المسلمين، ويُمنعون من التشبه بأهل الإسلام.
ولا بأس باشتراء أولاد العدوّ منهم إذا لم تكن لهم ذِمّة.
ومن لَدّ في أداء جزيته أدِّب على لَدَده وأخذت منه صاغرًا.
الثامنة اختلف العلماء فيما وجبت الجزية عنه؛ فقال علماء المالكية: وجبت بدلًا عن القتل بسبب الكفر.
وقال الشافعيّ: وجبت بدلًا عن الدم وسكنى الدار.
وفائدة الخلاف أنا إذا قلنا وجبت بدلًا عن القتل فأسلم سقطت عنه الجزية لما مضى، ولو أسلم قبل تمام الحول بيوم أو بعده عند مالك.
وعند الشافعيّ أنها دَين مستقرّ في الذمة فلا يسقطه الإسلام كأجرة الدار.
وقال بعض الحنفية بقولنا.
وقال بعضهم: إنما وجبت بدلًا عن النصر والجهاد.
واختاره القاضي أبو زيد وزعم أنه سرّ الله في المسألة.
وقول مالك أصح؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «ليس على مسلم جزية» قال سفيان: معناه إذا أسلم الذميّ بعد ما وجبت الجزية عليه بطلت عنه. أخرجه الترمذيّ وأبو داود.
قال علماؤنا: وعليه يدلّ قوله تعالى: {حتى يُعْطُواْ الجزية عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} لأن بالإسلام يزول هذا المعنى.
ولا خلاف أنهم إذا أسلموا فلا يؤدّون الجزية عن يَدٍ وهم صاغرون.
والشافعيّ لا يأخذ بعد الإسلام على الوجه الذي قاله الله تعالى.
وإنما يقول: إن الجزية دَين، وجبت عليه بسبب سابق وهو السكنى أو توقّي شر القتل، فصارت كالديون كلها.
التاسعة لو عاهد الإمام أهل بلد أو حصن ثم نقضوا عهدهم وامتنعوا من أداء ما يلزمهم من الجزية وغيرها، وامتنعوا من حكم الإسلام من غير أن يظلموا، وكان الإمام غير جائر عليهم؛ وجب على المسلمين غَزْوُهم وقتالهم مع إمامهم.
فإن قاتلوا وغلِبوا حكم فيهم بالحكم في دار الحرب سواء.
وقد قيل: هم ونساؤهم فَيْء ولا خُمْس فيهم؛ وهو مذهب.
العاشرة فإن خرجوا متلصّصين قاطعين الطريق فهم بمنزلة المحاربين المسلمين إذا لم يمنعوا الجزية.
ولو خرجوا متظلّمين نُظر في أمرهم ورُدّوا إلى الذمّة وأنصفوا من ظالمهم، ولا يُسترقّ منهم أحد وهم أحرار.
فإن نقض بعضهم دون بعض فمن لم ينقض على عهده، ولا يؤخذ بنقض غيره، وتُعرف إقامتهم على العهد بإنكارهم على الناقضين.
الحادية عشرة الجِزية وزنها فِعلة؛ من جزى يَجْزي إذا كافأ عما أسدِي إليه؛ فكأنهم أعْطَوْها جزاءَ ما منِحوا من الأمن، وهي كالقعدة والجِلسة.
ومن هذا المعنى قول الشاعر.
يُجزيك أو يُثْنِي عليك وإنّ مَن ** أثنى عليك بما فعلتَ كمن جَزَى

الثانية عشرة روى مسلم عن هشام بن حَكيم بن حِزام ومرّ على ناس من الأنباط بالشأم قد أقيموا في الشمس في رواية: وصُب على رءوسهم الزيت فقال: ما شأنهم؟ فقال يحبسون في الجزية.
فقال هشام: أشهدُ لسمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله يعذب الذين يعذبون الناس في الدنيا» في رواية: وأميرهم يومئذ عمير بن سعد على فِلسطين، فدخل عليه فحدّثه فأمر بهم فخلُّوا.
قال علماؤنا: أما عقوبتهم إذا امتنعوا من أدائها مع التمكين فجائز، فأما مع تبيّن عجزهم فلا تحلّ عقوبتهم؛ لأن من عجز عن الجزية سقطت عنه.
ولا يكلف الأغنياء أداءها عن الفقراء.
وروى أبو داود عن صفوان بن سليم عن عدّة من أبناء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن آبائهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: «من ظلم معاهدًا أو انتقصه أو كلّفه فوق طاقته أو أخذ شيئًا منه بغير طِيب نفس فأنا حجيجه يوم القيامة».
الثالثة عشرة قوله تعالى: {عَن يَدٍ} قال ابن عباس: يدفعها بنفسه غير مستنيب فيها أحدًا.
روى أبو البَخترِيّ عن سَلْمان قال: مذمومين.
وروى مَعْمَر عن قتادة قال: عن قهر.
وقيل: {عن يد} عن إنعام منكم عليهم؛ لأنهم إذا أخِذت منهم الجزية فقد أنعم عليهم بذلك.
عِكرمة: يدفعها وهو قائم والآخذ جالس؛ وقاله سعيد بن جبير.
ابن العربِيّ: وهذا ليس من قوله: {عَنْ يَدٍ} وإنما هو من قوله: {وَهُمْ صَاغِرُونَ}.
الرابعة عشرة روى الأئمة عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «اليد العليا خير من اليد السفلى واليد العليا المنفقة والسفلى السائلة» وروي: «واليد العُلْيا هي المعطية» فجعل يد المعطِي في الصدقة عليا، وجعل يد المعطِي في الجزية سفلى.
ويد الآخذ عليًا؛ ذلك بأنه الرافع الخافض، يرفع من يشاء ويخفض من يشاء، لا إله غيره.
الخامسة عشرة عن حبيب بن أبي ثابت قال: جاء رجل إلى ابن عباس فقال: إن أرض الخراج يعجز عنها أهلها أفأعمّرها وأزرعها وأؤدِّي خراجها؟ فقال لا.
وجاءه آخر فقال له ذلك: فقال لا، وتلا قوله تعالى: {قَاتِلُواْ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالله وَلاَ باليوم الآخر} إلى قوله: {وَهُمْ صَاغِرُونَ} أيعمد أحدكم إلى الصَّغار في عنق أحدهم فينتزعه فيجعله في عنقه! وقال كليب بن وائل: قلت لابن عمر اشتريت أرضًا؛ قال الشراء حسن.
قلت: فإني أعطي عن كل جرِيب أرض درهمًا وقفيزَ طعام.
قال: لا تجعل في عنقك صغارًا.
وروى مَيمون بن مِهْران عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: ما يسرّني أن لي الأرض كلّها بجزية خمسة دراهم أقِرّ فيها بالصّغار على نفسي. اهـ.

.قال الخازن:

قال تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ}
قال مجاهد: نزلت الآية حين أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتال الروم فغزا بعد نزولها غزوة تبوك، وقال الكلبي: نزلت في قريظة والنضير من اليهود فصالحهم فكانت أول جزية أصابها أهل الإسلام وأول ذل أصاب أهل الكتاب بأيدي المسلمين وهذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه المؤمنين والمعنى قاتلوا إيها المؤمنون القوم الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر.
فإن قلت اليهود والنصارى يزعمون أنهم يؤمنون بالله واليوم الآخر فكيف أخبر الله عنهم أنهم لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر؟
قلت: إيمانهم بالله ليس كإيمان المؤمنين وذلك أن اليهود يعتقدون التجسيم والتشبيه، والنصارى يعتقدون الحلول، ومن اعتقد ذلك فليس بمؤمن بالله.
وقيل: من اعتقد أن عزيزًا ابن الله وأن المسيح ابن الله فليس بمؤمن بالله بل هو مشرك بالله.
وقيل: من كذب رسولًا من رسل الله فليس بمؤمن بالله واليهود والنصارى يكذبون أكثر الأنبياء فليسوا بمؤمنين بالله.
وأما إيمانهم باليوم الآخر، فليس كإيمان المؤمنين، وذلك أنهم يعتقدون بعثة الأرواح دون الأجساد ويعتقدون أن أهل الجنة لا يأكلون فيها ولا يشربون ولا ينكحون ومن اعتقد ذلك فليس إيمانه كإيمان المؤمنين وإن زعم أنه مؤمن.
وقوله تعالى: {ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله} يعني: ولا يحرمون الخمر والخنزير.
وقيل: معناه أنهم لا يحرمون ما حرم الله في القرآن ولا ما حرم رسوله في السنة.
وقيل: معناه لا يعملون بما في التوراة والإنجيل بل حرفوهما وأتوا بأحكام من قبل أنفسهم {ولا يدينون دين الحق} يعني: ولا يعتقدون صحة الإسلام الذي هو دين الحق.
وقيل: الحق هو الله تعالى ومعناه: ولا يدينون دين الله ودينه الإسلام وهو قوله تعالى: {إن الدين عند الله الإسلام} وقيل معناه ولا يدينون دين أهل الحق وهم المسلمون ولا يطيعون الله كطاعتهم {من الذين أوتوا الكتاب} يعني أعطوا الكتاب وهم اليهود والنصارى {حتى يعطوا الجزية} وهي ما يعطى المعاهد من أهل الكتاب على عهده وهي الخراج المضروب على رقابهم سميت جزية للاجتزاء بها في حقن دمائهم {عن يد} يعني عن قهر وغلبة يقال لكل من أعطى شيئًا كرهًا من غير طيب نفس أعطى عن يد وقال ابن عباس: يعطونها بأيديهم ولا يرسلون بها على يد غيرهم وقيل: يعطونها نقدًا لا نسيئة.
وقيل: يعطونها مع إقرارهم بإنعام المسلمين عليهم بقبولها منهم {وهم صاغرون} من الصغار وهو الذل والإهانة يعني يعطون الجزية وهم أذلاء مقهورون وقال عكرمة: يعطون الجزية وهم قائمون والقابض جالس.
وقال ابن عباس: تؤخذ الجزية من أحدهم وتوطأ عنقه وقال الكلبي: إذا أعطي يصفع قفاه وقال هو أن يؤخذ بلحيته ويضرب في لهزمتيه ويقال له أدِّ حق الله يا عدو الله وقال الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه: الصغار هو جريان أحكام المسلمين عليهم.

.فصل في بيان أحكام الآية:

اجتمعت الأمة على جواز أخذ الجزية من أهل الكتاب وهم اليهود والنصارى إذا لم يكونوا عربًا واختلفوا في أهل الكتاب العرب وفي غير أهل الكتاب من كفار العجم، فذهب الشافعي إلى أن الجزية على الأديان لا على الأنساب فتؤخذ من أهل الكتاب عربًا كانوا أو عجمًا ولا تؤخذ من عبدة الأوثان بحال واحتج بما روي عن أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث خالد بن الوليد إلى أكيد ردومة فأخذوه فأتوا به فحقن دمه وصالحه على الجزية أخرجه أبو داود وقال الشافعي: وهو رجل من العرب يقال إنه من غسان وأخذ من أهل ذمة اليمن وعامتهم عرب وذهب مالك والأوزاعي إلى أن الجزية تؤخذ من جميع الكفار إلا المرتد.
وقال أبو حنيفة: تؤخذ من أهل الكتاب على العموم وتؤخذ من مشركي العجم ولا تؤخذ من مشركي العرب وقال أبو يوسف: لا تؤخذ من العربي كتابيًا كان أو مشركًا وتؤخذ من العجمي كتابيًا كان أو مشركًا وأما المجوس فاتفقت الصحابة على جواز الأخذ منهم ويدل عليه ما روي عن بجالة بن عبيدة ويقال عبدة: لم يكن عمر أخذ الجزية من المجوس حى شهد عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذها من مجوس هجر.
أخرجه البخاري عن جعفر بن محمد عن أبيه أن عمر بن الخطاب ذكر المجوس فقال ما أدري كيف أصنع في أمرهم فقال عبد الرحمن بن عوف أشهد أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «سنوا بهم سنة أهل الكتاب». أخرجه مالك في الموطأ عن ابن شهاب قال بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من مجوس البحرين وأن عمر أخذها من مجوس فارس وأن عثمان بن عفان أخذها من البربر أخرجه مالك في الموطأ وفي امتناع عمر من أخذ الجزية من المجوس حتى شهد عبد الرحمن أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذها منهم دليل على أن رأي الصحابة كان على أنها لا تؤخذ من كل مشرك وإنما تؤخذ من أهل الكتاب واختلفوا في أن المجوس هل هم من أهل الكتاب.
فروي عن علي بن أبي طالب أنه قال كان لهم كتاب يدرسونه فأصبحوا وقد أسرى على كتابهم فرفع من بين أظهرهم واتفقوا على تحريم ذبائحهم ومناكحتهم بخلاف أهل الكتاب وأما من دخل في دين اليهود والنصارى من غيرهم من المشركين فينظر فإن كانوا قد دخلوا فيه قبل النسخ والتبديل فإنهم يقرون بالجزية وتحل مناكحتهم وذبائحهم وإن كانوا دخلوا فيه بعد النسخ بمجيء محمد صلى الله عليه وسلم ونسخ شريعتهم بشريعته فإنهم لا يقرون بالجزية ولا تحل ذبائحهم ومناكحتهم ومن شككنا في أمرهم هل دخلوا فيه بعد النسخ أو قبله يقرون بالجزية تغليبًا لحقن الدم ولا تحل ذبائحهم ومناكحتهم تغليبًا للتحريم ومنهم نصارى العرب من تنوخ وبهراء وبني تغلب أقرهم عمر على الجزية.
وقال: لا تحل لنا ذبائحهم وأما الصابئة والسامرة فسبيلهم سبيل أهل الكتاب فهم في أهل الكتب كأهل البدع في المسلمين وأما قدرالجزية فأقلها دينار ولا يجوز أن يقنص عنه ويقبل الدينار من الغني والفقير والمتوسط ويدل عليه ما روي عن معاذ بن جبل: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما وجهه إلى اليمن أمره أن يأخذ من كل حالم أي محتلم دينارًا أو عدله من المغافرية ثياب تكون باليمن أخرجه أبو داود فالنبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يأخذ من كل محتلم وهو البالغ دينارًا ولم يفرق بين الغني والفقير والمتوسط وفيه دليل على أنه لا تؤخذ الجزية من الصبيان والنساء وإنما تؤخذ من الأحرار البالغين وذهب قوم إلى أن على كل موسر أربعة دنانير وعلى كل متوسط دينارين وعلى كل فقير دينارًا وهو قول أصحاب الرأي ويدل عليه ما روي عن أسلم أن عمر بن الخطاب ضرب الجزية على أهل الذهب أربعة دنانير وعلى أهل الورق أربعين درهمًا ومع ذلك أرزاق المسلمين وضيافة ثلاثة أيام أخرجه مالك في الموطأ: قال أصحاب الشافعي: أقل الجزية دينار لا يزاد على الدنيار إلا بالتراضي فإذا رضي أهل اذمة بالزيادة ضربنا على المتوسط دينارين وعلى الغني أربعة دنانير قال العلماء: إنما أقر أهل الكتاب على دينهم الباطل بخلاف أهل الشرك حرمة لآبائهم الذين انقرضوا على الدين من شريعة التوراة والإنجيل قبل النسخ والتبديل وأيضًا لإن بأيديهم كتبًا قديمة فربما تفكروا فيها فيعرفون صدق محمد صلى الله عليه وسلم وصحة نبوته فأمهلوا لهذا المعنى وليس المقصود من أخذ الجزية من أهل الكتاب إقرارهم على كفرهم بل المقصود من ذلك حقن دمائهم وإمهالهم رجاء أن يعرفوا الحق فيرجعوا إليه بأن يؤمنوا ويصدقوا إذا رأوا محاسن الإسلام وقوة دلائله وكثرة الداخلين فيه. اهـ.